close
التاريخ

يوسف بن تاشفين.. ما لا تعرفه عن ابن الصحراء الذي جمع شمل بلاد المغرب العربي

عاش ابن تاشفين أميرا في بلاد المغرب بين مفازات الصحراء المناجية للشمس كل حين، وما يزال له من الألق التاريخي والسمو الفروسي في ذاكرة المغرب العربي ما لصلاح الدين الأيوبي في المشرق حيث ولد ذلك الصنهاجي تحت خيام الصحراء، وبين حنين الإبل وتناويح أنسام موج الرمال، وعاش طفولته الأولى في تلك البيئة لم يشأ ابن تاشفين أن ينازع العباسيين

سلطانهم فترك لهم لقب أمير المؤمنين. وإذا كان أبو بكر بن عمر اللمتوني هو المؤسس الفعلي لدولة المرابطين فإن ابن تاشفين هو أهم أمرائها وأقواهم شوكة وأطولهم فترة وأخلدهم في ذاكرة التاريخ مسقط رأس الرجل الذي غيّر تاريخ المغرب.. صحراء موريتانيا ولد يوسف بن تاشفين بن ترقنت في حدود سنة 400 للهجرة (1009م)، في منطقة من الصحراء لا يستبعد أن تكون

في موريتانيا الآن، ولا يزال في موريتانيا عدد من الأسر التي تحمل اسم تاشفين وقد نشأ الفتى في محيط من الالتزام الديني المغلف بقيم الفروسية، وقد كانت تلك سيرة للقبائل الصنهاجية العريقة، وزاد من عمقها التربية الإسلامية الصارمة التي بنى عليها الفقيه عبد الله بن ياسين رباطه الأول في منطقة غير بعيدة من موقع العاصمة الموريتانية الحالية نواكشوط.
كانت

تربية ابن ياسين تشكيلة من التكوين الديني والنفسي والتربوي والجسدي، وأطلقت في فجاج المغرب العربي رجالا كالبرق في المضاء وكالقمر في النور والطهر وضمن هذا السياق ولد ابن تاشفين الذي أحبه العلماء وأشادوا بسيرته وكتبوا عنه أكثر مما كتب عنه الشعراء والمؤرخون، ومن ذلك ما كتبه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان ابن تاشفين كثير العفو مقربا للعلماء،

وكان أسمر نحيفا خفيف اللحية دقيق الصوت أما ابن الأثير فيصفه في كتابه الكامل في التاريخ بأنه: كان حليما كريما ديّنا خيّرا يحب أهل العلم والدين ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم، خشع عند استماع الموعظة ولان قلبُه لها وظهر ذلك عليه، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام تأسيس أول اتحاد للمغرب العربي

تولى يوسف بن تاشفين الإمارة في سن مبكرة من حياته، حيث قلده ابن عمه أبو بكر بن عمر اللمتوني إمارة الصحراء وبايعه الشيوخ وسادتهم وزعماؤهم، واستقرت للأمير الشاب مناكب الصحراء في سنة 463 للهجرة تولى ابن تاشفين القيادة العامة للحركة وارثا بذلك زعامة ممتدة الأرجاء وملكا عضوضا وتاريخا مشرفا مما خلفه تحالف العلماء بقيادة عبد الله بن ياسين والزعماء

والقادة بقيادة يحيى ابن إبراهيم وأبي بكر بن عامر ورث يوسف بن تاشفين عند توليه قيادة الحركة سنة 453هـ, كل النتائج الإيجابية التي حققها قبله في المغرب عبد الله بن ياسين القائد الروحي وأبو بكر بن عمر، فاتخذ من “سجلماسة” قاعدة جنوبية لدولته، قبل بناء مدينة مراكش واتخاذها عاصمة للدولة وبفضله صارت مركز تجمع للصنهاجيين الصحراويين الجنوبيين، وخصوصا

من قبائل لمتونة ومسوفة وجدالة، واهتم كذلك بمراكش وسهلها، فاتسع العمران فيها وأصبحت بالفعل عاصمة دولة كبيرة تتخذ من سجلماسة قاعدة جنوبية لها، قبل أن تتمدد تجاه مراكش الحمراء التي تحولت مع الزمن إلى أهم معلم في بلاد المغرب، فتوسعت بناء وعمرانا وشمخت مآذن وتاريخا وتدفقت جداولها ومحاريبها بعذب الزلال ورائق العلوم والتربيةوامتد حكمه إلى فجاج

كبيرة من جبال الريف المغربي والربوع والمناطق الصحراوية العتيقة، قبل أن يصل إلى طنجة ثم فاس التي وجدت في عهد ابن تاشفين عناية خاصة، فأقام حولها الأسوار المنيعة والحصون الحامية، وجمع مفترق أحيائها في مدينة واحدة بعد أن كانت مدينتين متنافرتين ولقد كان سلطان يوسف ابن تاشفين ومملكته أول تأسيس عملي لاتحاد المغرب العربي أو الإسلامي، حيث

دخلت في مملكته كل بلاد موريتانيا الحالية، وأجزاء من السنغال وقطاعات واسعة من المملكة المغربية الحالية، وأجزاء كبيرة من الجزائر، وأجزاء كبيرة من الفردوس المفقود “الأندلس”، مقيما بذلك أوسع دولة جامعة بين بلاد السودان وبلاد البربر والعرب سياسة اللامركزية أسس ابن تاشفين دولة لامركزية، تتوزع فيها منافذ الحكم والسلطة على القبائل التي حافظت على حوزتها

الترابية وعلى سلطتها العشائرية مع ولاء تام وراسخ لسلطة أمير المسلمين وهيمنة دولته القوية وإلى جانب سلاطين القبائل وزعمائها، فقد حكم ابن تاشفين بجانب قوى من سلطة العلماء والمربين الروحيين الذين نشرهم في مختلف القبائل، ضمن مسار طويل وواسع من بناء المساجد والمدارس الدينية ونشر معارف الشريعة الإسلامية وتعليم اللغة العربية، فحكم ابن

ياسين وترسخت دولته وامتد سلطانه ضايق ملوك الإفرنجة ملوك الأندلس، وقد توزعت الأندلس خلال مئتها الأخيرة في حكم المسلمين على ملوك وقطع صغيرة مزركشة، ففي كل حصن سلطان وقضاء وأهازيج وأناشيد وحدائق ذات بهجة وصراع بين الطوائف، مما جعلهم إلى اليوم مسخرة في دفاتر التاريخ حتى قال الشاعر الأندلسي ابن رشيق:مما يزهدني في أرض أندلس

أسماء معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها.. كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ولما اشتد الخناق على ملوك الطوائف، استنجد الزعماء المترفون بالبدوي ابن تاشفين، وخاصة أمير إشبيلية المعتمد بن عباد، رغم أن فكرة الاستنجاد بابن تاشفين لم تكن محل إجماع من ملوك الطوائف، خوفا من تبعاتها اللاحقة واستجابة لتلك الدعوة قاد ابن تاشفين قوة جرارة، يثير

غبار الصحراء بأخفاف الإبل التي لم تعهدها أرض الأندلس من قبل واقعة الزلاقة.. إبل الصحراء التي أنقذت الأندلس
التأمت القوتان في الزلاقة، وقد بدأت واقعة الزلاقة يوم 12 رجب 479 هـ الموافق 23 أكتوبر/تشرين الأول 1086 م، واستمرت عدة أيام، وكان يقود فرق قشتالة وليون الملك ألفونسو السادس، قبل أن تنتهي الواقعة بهزيمة ساحقة لألفونسو السادس، وانكسار

لشوكة الافرنجيين، حيث استرد المسلمون بهذه الواقعة مدينة بلنسية وعادت إليهم السيادة على الجزيرة الخضراء.ولما انجلى غبار الحرب عن نصر مؤزر للمسلمين، وعمر جديد للأندلس العربية، لاحظ ابن تاشفين تباين طباعه مع طباع الملوك الأندلسيين، فابن الصحراء الأسمر -الذي عايش لهيب الشمس وشظف العيش- لم يعرف رقة النعيم وجريان الأنهار الأندلسية وانغماس

الملوك والرعية في الملذات لم يعرف ابن تاشفين بسط النمارق والورود، ولا الأكواب المذهبة، ولا أنهار العنبر والحناء والمسك وقلال الذهب التي حملتها اعتماد الرميكية وهي تخطو في طين من الحناء الأصيلة تفوح منه رائحة المسك الأثير.خطة تطهير حديقة الأندلس بعد أن عاد ابن تاشفين إلى أرضه وجه قوةً لاقتلاع ملوك الطوائف واحدا بعد الآخر، ومد أطناب دولته على بقاع الأندلس.

وكان من بين أسراه الملك الشاعر المعتمد بن عباد الذي عامله ابن تاشفين معاملة قاسية، ورأى أنها جزاؤه الموفور على سوء صنيعه في النعم العظيمة التي كان يرفل فيها وقد نسبت كتب التاريخ إلى ابن تاشفين مرافعة واسعة عن حكمه القاسي على ابن عباد ومن ذلك قوله: تقولون لنرحم الرجل فقد كبر سنه وذهبت دولته ولم يعد يملك من الأمر ما سلّم حتى راح منا

نفرا كثيرا، وقد لقينا منه ما لم نلق من الروميّ وفرقته، فما بالكم تذكرون آخر الأمر ولا تذكرون أوّله، وتذكرون العاقبة وتنسون الأسباب تتشفّعون لي فيه وتقولون ارحموا عزيز قوم ذل، وما ذل حتى أذل، وإنما إذلاله إذلال رجل واحد، وكان ذله ذل أمة بأكملهاشاع خبر انتصار ابن تاشفين وفرقته على الافرنجة في أصقاع العالم الإسلامي وما يزال إلى اليوم خالدا في صفحات التاريخ،

تتنفسه الأيام عطرا من تاريخ البطولة والإباء وقد كان هذا الانتصار دافعا للمرابطين إلى مطالبة زعيمهم ابن تاشفين بإعلان الانفصال عن السلطة العباسية وتسمية نفسه أميرا للمؤمنين، لكن ابن تاشفين رفض ذلك رفضا قاطعا، وتسمى أمير المسلمين بعد أن أعلن الخضوع والولاء للسلطان العباسي وقد لاقى هذا الموقف إكبار العلماء والسلطة العباسية على حد سواء

فخلعوا على ابن ياسين نياشين الإكبار وخلدوا ذكره في بطون الكتب ودواوين التاريخ وفاة ابن تاشفين.. مغيب شمس الصحراء في عبوره الثالث إلى الأندلس عام 496هـ (1103م)، دعا ابن تاشفين في قرطبة أعيان الولاة والقادة وزعماء القبائل في دولته إلى اجتماع عام انتهى بتعيين ابنه علي بن تاشفين حاكما على الأندلس وبعد أربع سنوات سلم ابن تاشفين الروح

إلى بارئها وغادر عالم الدنيا عن عمر ناهز قرنا من الزمان، غير أن ذكراه لم تزل خالدة ولم يزل صوته وهاجا في تاريخ الغرب الإسلامي إلى اليوم، ولا يزال اسم ابن تاشفين علما خفاقا يُحيي في نفوس أبناء الغرب ذكراه العطرة.

الجزيرة الوثائقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى