خطبة الجمعة في تركيا : اَلرِّبَا ومَضَارُّهُ الإِجْتِمَاعِيَّةُ
التاريخ: 23.08.2019
اَلرِّبَا ومَضَارُّهُ الإِجْتِمَاعِيَّةُ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُحْتَرَمُونَ!
فِي السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنْ الهِجْرَةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الأَخِيرَةُ لِلرِّسَالَةِ، وَصَلَ النَّبِيُّ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَعِيدِ عَرَفَاتَ بَعْدَ أَنْ أَتَى مِنْ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ قَاصِداً أَدَاءَ فَرِيضَةِ الحَجِّ. وَهُنَا قَامَ بِإِلْقَاءِ خُطْبَتِهِ المَشْهُورَة الَّتِي سُمِّيَتْ بَعْدَ سِنِينَ بِ “خُطْبَةِ الوَدَاعِ”. حَيْثُ أَوْرَدَ فِيهَا وَصَايَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُنِيرَ طَرِيقَ الإِنْسَانِيَّةِ. وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. وَإِنَّ الرِّبَا هُوَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُور الَّتِي حَرَّمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْ لَا يَعُودَ النَّاسُ إِلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى حَيْثُ قَالَ ” أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ. وَقَدْ قَالَ الْنَّبِيُ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطِباً المُؤْمِنِينَ وَمُعْلِناً أَنَّ الرِّبَا مَوْضُوعَةٌ بِجَمِيعِ أَشْكَالِهَا وَأَنْوَاعِهَا: ” وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ”
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ الأَعِزَّاء!
إِنَّ الرِّبَا هُوَ اسْتِرْدَادُ مَالٍ أَوْ مَتَاعٍ أُعْطِيَ عَلَى وَجْهِ الدَّيْنِ، مَعَ زِيَادَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى هَذَا المَالِ أَوْ المَتَاعِ بَعْدَ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ قِيْمَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَغَيْرُ مُسْتَحِقَّةٍ وَ بِدُونِ مُقَابِلٍ يُجْبَرُ المُسْتَدِينُ عَلَى دَفْعِهَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ. وَهِيَ بِلَا شَكٍّ كَسْبٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَيْسَ مِنْ عَرَقِ الجَبِينِ وَدُونَ بَذْلِ جُهْدٍ يُذْكَرُ. وَهِيَ كَذَلِكَ تَحْوِيلُ أَوْضَاعِ الأَشْخَاصِ مِنَ الَّذِينَ وَقَعُوا فِي شِبَاكِ الْعَوَزِ وَالْحَاجَةِ إِلَى فُرْصَةٍ يَتِمُّ اسْتِغْلَالُهَا.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ الأَعِزَّاء!
إِنَّ الإِسْلَامَ قَدْ حَرَّمَ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ كُلَّ أَنْوَاعِ الرِّبَا وَأَشْكَالِهَا. وَقَدْ اعْتَبَرَ التَّعَامُلَ بِهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَاليَ حَذَّرَ المُؤْمِنِينَ فِي الآيَةِ الَّتِي قَرَأْتُهَا فِي بِدَايَةِ خُطْبَتيِ حَيْثُ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ الكِرَام!
لَا شَكَّ أَنَّ أَوَامِرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَوَاهِيهِ هِيَ مِنْ أَجْلِ مَصْلَحَةِ عِبَادِهِ. وَهِيَ تَوْجِيهٌ لَهُم لِيَكُونُوا رَاضِينَ مُطْمَئِنِّينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَسُعَدَاءَ فِي الآخِرَة. وَبِلَا شَكٍّ أَنَّهُ فِي تَحْرِيمِ الإِسْلَامِ لِلرِّبَا تَكْمُنُ العَدِيدُ مِنْ الحِكَمِ سَوَاءً عَلَى الجَانِبِ الفَرْدِيِّ أَوْ الجَوَانِبُ المُجْتَمَعِيَّةِ .
إِنَّ الرِّبَا لَا يُذْهِبُ فَقَطْ بَرَكَةَ المَالِ وَيُنْقِصُهَا بَلْ إِنَّهُ يُذْهِبُ وَيُنْقِصُ كَذَلِكَ بَرَكَةَ العُمْرِ. فَكَمْ مِنْ حَوَادِثَ ظَهَرَتْ وَبَرَزَتْ مِنْ إِفْلَاسٍ وَانْتِحَارٍ وَتَشَتُّتٍ أُسَرِيٍّ وَأَعْمَارٍ ذَهَبَتْ سُدًى بِسَبَبِ هَذَا الرِّبَا. وَإِنَّ الفُقَرَاءَ وَأَصْحَابَ الدَّخْلِ المَحْدُودِ فِي المُجْتَمَعَاتِ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا الرِّبَا يَكُونُوا مُهَمَّشِينَ وَمُضْطَهَدِينَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَزِيدُ مَعَ الوَقْتِ مِنْ الهُوَّةِ بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ وَالفُقَرَاءِ وَيَجْعَلُهَا أَكْثَرَ عُمْقاً. وَمِنْ شَأْنِهِ أَيْضاً أَنْ يُنْهِي السُّلُوكِيَّاتِ الفَاضِلَةِ وَالحَمِيدَةِ مِثْلُ إِعْطَاءِ الدَّيْنِ مِنْ أَجْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّعَاوُنِ وَالمَحَبَّةِ وَالمَرْحَمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالإِحْسَانِ وَالإِنْفَاقِ. وَأَنْ يَدْفَع بِالقِيَمِ الدِّينِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ إِلَى أَنْ تَبْلَى وَتَنْتَهِي. وَيُضْعِفُ أَيْضَاً الحِسَّ تِجَاهَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ المَطَافِ سَوْفَ يَكُونُ العَمَلُ عَلَى الكَسْبِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ مِنْ عَدَمِهَا، سَبَباً لِعَدَمِ الاِسْتِقْرَارِ فِي المُجْتَمَعِ وَاضْطِرَابِهِ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ الأَعِزَّاء!
إِنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُحَقِّقُ الكَسْبَ دُونَ بَذْلِ جُهْدٍ وَبِكُلِّ سُهُولَةٍ هُوَ فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالخَسَارَةِ. وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ الحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ “يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ” . وَإِنَّ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ تَزِيدُ فِي مَالِ مُعْطِيهَا وَتُضْفِي عَلَيْهِ بِالبَرَكَةِ. فَيَجِدُ الخَيْرَ فِي ثَرْوَتِهِ وَمَالِهِ. وَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ وَدَفْتَرُ أَعْمَالِهِ بِالثَّوَابِ وَالأَجْرِ. أَمَّا الرِّبَا فَيَمْحَقُ بَرَكَةَ المَالِ وَالثَّرَوَاتِ. وَلَا يَجْلِبُ لِصَاحِبِهِ غَيْرَ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ. وَيَدْفَعُ بِإِفْلَاسِهِ المَادِّيِّ وَالمَعْنَوِيِّ عَلَى حَدٍّ سَوَاء. وَقَدْ أَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا سَيُلْحِقُهُ الرِّبَا بِصَاحِبِهِ مِنْ خَسَارَةٍ وَفَقْدٍ بِقَوْلِهِ: ” مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنَ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ”.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ الأَعِزَّاء!
إِنَّ دِينَنَا الجَلِيل أَمَرَنَا أَنْ نَقُومَ عَلَى تَأْمِينِ أَرْزَاقِنَا مِنْ خِلَالِ طُرُقِ الحَلَالِ المَشْرُوعَةِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًامِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.”
وَمَعَ الأَسَف فَإِنَّنَا نَجِدُ اليَوْمَ مَنْ يَرَى المُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا أَحْيَانَاً تَكُونُ جُزْءً طَبِيعِيّاً مِنْ أَجْزَاءِ التِّجَارَةِ وَأَرْكَانِهَا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الحَالُ فِي عَهْدِ الجَاهِلِيَّةِ، وَكَمَا يَتِمُّ العَمَلُ عَلَى نَشْرِ المَفَاهِيمِ وَالأَفْكَارِ الَّتي تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلتّجَارَة أَنْ تَقُومَ بِغَيْرِ الرّبَا. مَعَ أَنَّ التِّجَارَةَ وَالرِّبَا هُمَا شَيْئَانِ مُنْفَصلَانِ عَنْ بَعْضهِمَا تَمَامَاً. وَقَدْ أَشَارَ القُرْآنُ الكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” وَلِهَذَا فِإِنَّ مَا يَقَعُ عَلَى عَاتِقِنَا أَثْنَاءَ تِجَارَتِنَا هُوَ أَنْ نَتَعَامَلَ بِكُلِّ حَسَّاسِيَّةٍ وَحَذَرٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَدَمِ الاقْتِرَابِ مِنْ الرِّبَا وَالتَّعَامُلِ بِهِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ الأَعِزَّاء!
إِنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ يُخْبِرُنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَتْرُكُونَ الرِّبَا وَالتَّعَامُلَ بِهِ رَغْمَ كُلِّ تَنْبِيهَاتِ دِينِنَا الحَنِيفِ وَتَحْذِيرَاتِه حَيْثُ يَقُولُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا”
وَلِذَا فَلْنَبْتَعِدْ عَنْ كَارِثَةِ الرِّبَا هَذِهِ الَّتِي ظَلَّتْ عَبْرَ التَّارِيخِ أَحَدَ أَكْبَرِ أَدَوَاتِ الاِسْتِغْلَالِ وَالظُّلْمِ لِلحَيَاةِ الاِقْتِصَادِيَّةِ. وَلْنُدْرِكْ حَقِيقَةَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَالٍ وَمَتَاعٍ يَتِمُّ كَسْبُهُ مِنْ خِلَالِ الرِّبَا. وَلْنَحْرِصْ وَنَسْعَى فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الفَانِيَةِ عَلَى أَنْ نَكْسِب أَرْزَاقَنَا بِالطُّرُقِ المُحَلَّلَةِ وَالمَشْرُوعَةِ وَأَنْ نُنْفِقَهَا أَيْضَاً فِي الحَلَالِ بَدَلاً مِنْ السَّعْيِ لِلكَسْبِ بِشَكْلٍ أَكْبَرَ وَأَكْثَرَ. وَلَا نَنْسَى أَنَّنَا سَوْفَ نُسْأَلُ يَوْمَ الحَشْرِ عَنْ أَمْوَالِنَا مِنْ أَيْنَ كَسِبْنَاهَا وَفِيمَا أَنْفَقْنَاهَا. وَإِنَّنِي أَوَدُّ أَنْ أُنْهِي هَذِهِ الخُطْبَةَ بِذِكْرِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي يُحَذِّرُنَا فِيهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ” يَٓا اَيُّهَا الَّذ۪ينَ اٰمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبٰٓوا اِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِن۪ينَ. فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّٰهِ وَرَسُولِه۪ۚ وَاِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُ۫سُ اَمْوَالِكُمْۚ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ.”