close
الأخبار

تعرف على ماذا تضمنت قصة ريان الحزينة بين السياسة والاقتصاد وصناعة الأخبار..اليك التفاصيل

دخل اسم “ريان” المغربي كل بيت في الدول العربية، وصار رمزا لإنسانية كل شعوب المنطقة، وأصبحت كل القرى في منطقتنا المنكوبة اسمها “إغران” على اسم القرية المغربية التي ينتمي لها ريان.

خلال الأيام الماضية التي شهدت محاولات إنقاذ الطفل وقبيل وفاته، صارت وسائل الإعلامية التقليدية ومواقع التواصل ساحة للنقاشات والجدل والصراعات. كانت أصوات النقاش أحيانا تعلو على ضربات الآليات والجرافات التي تحاول الحفر في البئر، فيما فضل البعض الصمت احتراما وإجلالا للحزن الشفيف الذي غطى خارطة العالم العربي كاملة. أما وقد انتهى الحدث، وإن لم ينته الحزن والألم، فربما يتسع الوقت الآن لبعض الملاحظات على النقاشات التي توزعت بين السياسة والاقتصاد و”صناعة الأخبار”.

لعل الملاحظة الأكثر أهمية، هي حجم الترابط بين شعوب الدول العربية الكبير في السراء والضراء. تزامنت قصة ريان الحزينة مع تأهل المنتخب المصري لنهائي بطولة كرة القدم الأفريقية، فأصبح كل العرب يتحدثون عن القصتين وكأنهما شأن شخصي. تناست غالبية شعوب الدول العربية خلافاتها وقضاياها الخاصة، وركزت بكل مشاعرها مع “ريان” و”المنتخب المصري”، رغم أنها عمليا لا تستطيع أن تقدم شيئا سوى الدعوات والتمنيات والمشاعر الطيبة.

أدّت التغطية الإعلامية دورا كبيرا في نشر قصة ريان بلا شك، ولكن المتابع يستطيع أن يلاحظ الفرق بين مجرد الاهتمام الذي تصنعه التغطيات الإعلامية، والمشاعر العميقة في القلب. هو فرق لا يمكن قياسه علميا، ولكنه يتحدث عن نفسه دون مؤشرات أو استطلاعات أو بيانات.

في الجانب الإعلامي للقصة، طرح الكثيرون بعض التساؤلات حول سر الاهتمام بقصة ريان، فيما يعاني ملايين الأطفال العرب من مآس رهيبة بين فقدان الأمن والجوع وانهيار الصحة، والتعرض لخطر الموت أحيانا في سوريا والعراق واليمن وفلسطين وغيرها، دون متابعة إعلامية مناسبة. ثمة مسألتان مهمتان في هذا النقاش: الأولى تتعلق بمبدأ طرح هذه التساؤلات، والثانية في التفسير للاهتمام الإعلامي الكبير بقصة ريان دون غيرها من قضايا الأطفال الذين يعانون في المنطقة.

قد تتراجع الظلمة المعنوية التي سببها الحزن عن “إغران” مع الوقت، ولكن ظلام انقطاع الكهرباء وغياب التنمية والتهميش الاقتصادي، سيبقى مخيما على الملايين في “إغران” وغيرها من قرى وبلدات عالمنا العربي المنكوب

من ناحية المبدأ، يبدو التساؤل محقا ومنطقيا ولا يجب أن يكون محل انتقاد، ومع ذلك فقد تعرض بعض الذين طرحوه للنقد الشديد وأحيانا الهجوم في وسائل التواصل الاجتماعي. ينبغي هنا التفريق بين من يطرح هذا التساؤل، إذ إن من الطبيعي والمتفهم جدا أن يصاب الناس المكلومون بالمآسي التي تسببها الصراعات بنوع من الحسرة بسبب غياب الاهتمام والتغطية الإعلامية لقضاياهم، خصوصا عندما يكونون من المتابعين الذين لا يزعمون أنهم “مؤثرون” أو مثقفون أو صناع رأي، ولذلك من المستغرب أنهم هوجموا وكأنهم يقللون من أهمية قصة الطفل الراحل ريان، بينما هم يعبرون عن مشاعر فطرية طبيعية.

بالمقابل، يمكن اعتبار طرح التساؤل من بعض الكتاب والمثقفين و”نجوم السوشيال ميديا” في غير مكانه، أو على الأقل في غير وقته. كان يفترض من هؤلاء الامتناع عن استفزاز الناس المهتمين بقضية الطفل البريء، على الأقل خلال الوقت الذي كانت محاولات إنقاذه تجري تحت سمع ونظر القلوب المشحونة بالعواطف والمشاعر الطيبة في كل الدول العربية، خصوصا أن هؤلاء المثقفين والصحفيين لا بد أن يكونوا على فهم بطريقة صناعة الأخبار والعوامل المؤثرة بها.

ثمة عوامل كثيرة أدّت دورا في التغطية الإعلامية لقصة ريان، أولها أنها قصة “حديثة”، بينما -بكل أسف- أصبحت معاناة أطفال اليمن وسوريا وفلسطين أمرا متكررا وليس جديدا. صحيح أن كون المعاناة متكررة لا يخفف من وطأتها ولا يقلل من ألمها على من يكتوون بنارها، ولكن “قيمتها” الإخبارية تتراجع، واهتمام المتابعين بها يقل شيئا فشيئا.

من جهة أخرى، يؤدي “شكل” المأساة و”الصورة” دورا مهما في طبيعة التغطية الإعلامية لها والاهتمام بمتابعتها؛ لقد صنعت الظروف التي أحاطت بمأساة الطفل ريان “الصورة” التي فجرت القضية إعلاميا، فهو طفل وقع في بئر بشكل مفاجئ في يوم عادي لا صراعات سياسية أو عسكرية فيه، وهو “شخص واحد” عرفت صورته وملامحه وعرفت صورة أبيه وأمه، وهذه عناصر كلها تعطي للقصة “قيمة إعلامية”، أما المآسي الأخرى، فإن ضحاياها كثيرون، وهم يعيشون في أماكن صراعات دموية صارت المعاناة فيها “أمرا عاديا”! ولا تعرف صورهم ولا ألوان ملابسهم ولا صورة آبائهم وعائلاتهم، ولذلك فإن الاهتمام الإعلامي بهم يتراجع مع الوقت. سيبدو هذا التوصيف جافا، وخاليا من المشاعر الإنسانية، ولكنه يمثل الواقع والحقيقة، فالمعاناة والمأساة وحدهما لا تصنعان “قصة” إخبارية تحظى بالاهتمام، وهو ما يفسر مثلا التغطية الإعلامية العالمية لقصة الطفل السوري اللاجئ، الذي غرق على ساحل البحر في أثناء محاولة عائلته الهجرة من جحيم الصراع في سوريا، مع أنه ليس الطفل الوحيد الذي انتهت قصة حياته هذه النهاية المأساوية.

بعيدا عن لهيب المأساة ومشاعر الترقب ثم الفرح ثم الحزن التي رافقت محاولات إنقاذ الطفل ريان، وقريبا من “صناعة الأخبار”، غابت الأبعاد الاقتصادية والتنموية عن المتابعات الإعلامية. انتهت “قصة ريان” نهاية مأساوية، وسينقطع الاهتمام الإعلامي بها خلال أيام بدون شك، ولكن مأساة أخرى بدأت قبل هذه القصة ولم تنته بعدها ولا تزال مستمرة، ولكنها غابت عن الإعلام. نقصد هنا مأساة ضعف الاقتصاد وغياب التنمية في الدول العربية، حيث تعاني القرى والبلدات البعيدة عن العواصم والمدن الكبرى من اختلال كبير في التنمية، وتفتقد للطرق الآمنة، ولعوامل الأمن والسلامة، وللكهرباء والماء، وللقدرات التي تؤهل السلطات المحلية على التعامل مع الحوادث الطارئة وغير المتوقعة.

تشبه بلدة “إغران” في محافظة “شفشاون” المغربية آلاف القرى والبلدات في الدول العربية التي تعاني من التهميش والفقر والمعاناة وغياب التنمية. تنتظر هذه البلدات اهتماما إعلاميا “يليق” بمآسيها المستمرة والمزمنة، وهو ما يتطلب صحافة حقيقية تسأل الأسئلة الصعبة وتبحث عن الإجابات المستحيلة.

في مداخلة لصحفية مغربية كانت تراسل قناتها الفضائية في تغطية إخبارية بعد موت الطفل الجميل ريان بوقت قصير، قالت لزميلتها في الاستوديو ردا على سؤال لها عن حال “إغران”؛ إن القرية مظلمة. قالت هذه الكلمة المعبرة المؤثرة بالمعنى المجازي والحقيقي، فهي مظلمة بالحزن الثقيل على فقدان الطفل الذي أحبته كل شعوب الدول العربية، وهي مظلمة لأنها دون كهرباء.

قد تتراجع الظلمة المعنوية التي سببها الحزن عن “إغران” مع الوقت، ولكن ظلام انقطاع الكهرباء وغياب التنمية والتهميش الاقتصادي سيبقى مخيما على الملايين في “إغران” وغيرها من قرى وبلدات عالمنا العربي المنكوب، التي تئن تحت لهيب الفقر، و”احتراق” الصورة، وآفة النسيان!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى