Uncategorized

لماذا أحـ.ـرقت السـ.ـلطة كتب ابن حزم والغزالي وابن رشد؟.. تعرف على صـ.ـراع المعرفة مع أنظـ.ـمة الاسـ.ـتبداد في تاريخنا

لماذا أحـ.ـرقت السـ.ـلطة كتب ابن حزم والغزالي وابن رشد؟.. تعرف على صـ.ـراع المعرفة مع أنظـ.ـمة الاسـ.ـتبداد في تاريخنا

عند التقـ.ـصي الشـ.ـديد لوقـ.ـائع حـ.ـرق الكتب في التراث الإسـ.ـلامي؛ وجدنا أن أغلبية حـ.ـوادث هذه الظـ.ـاهرة المُســتهجَنة تعود إلى فعل السـ.ـلطة وغوائل السـ.ـياسة، فكل سلـ.ـطة مسـ.ـتبدة نجد فيها نـ.ـزوعا ضد المعرفة وما تستتبعه من حـ.ـرية تفكير وتنوير

ويجـ.ـلّي العلامة عبد الرحمن الكواكبيّ (ت 1320هـ/1902م) ذلك المعنى -في كتابه ‘طبائع الاسـ.ـتبداد‘- بقوله: “فكما أنه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتامُ رشدَهم، كذلك ليس من غرض المســ.ـتبد أن تتـ.ـنور الرعيةُ بالعلم؛ [فـ]ـلا يخفى على المسـ.ـتبد -مهما كان غبيا- أنْ لا استـ.ـعبادَ ولا اعتسافَ إلا ما دامت الرعية حمقاءَ تَخبط في ظلامةِ جهلٍ وتِيهِ عَمَاءٍ”.

لقد كان بعض السـ.ـلطات يتوهم أنه بتلك الأفعال يقوم بعمل تنويري، وذلك بمحـ.ـاربة المعـ.ـتقدات الدخيلة تعزيزا لشرعية النـ.ـظام في أوساط العامة وتقوية لبنيان الجمـ.ـاعة السيـ.ـاسية حولها، وهي تلك الكتب التي كانت تخالف العقيدة القويمة

مثل تصانيف التنجيم وما كان يرتبط بها من سحر وطلاسم، فضلا عن بعض الكتب الفقهية والسلوكية التي قد تصفها سـ.ـلطة ما -في لحظة ما- بأنها قد تفتّت لحمة المجتمع.

ومما يؤكد غلبة العامل السـ.ـياسي هنا أن تلك المحـ.ـارق الهـ.ـوجاء -وحـ.ـرق أي كتاب هو تأكيدا فعلٌ أهـ.ـوجُ فالرأي يقارع بالرأي- غالبا ما كانت تحصل في بدايات تأسيس الد.ول، وأثناء الصـ.ـراعات بين الأنظـ.ـمة، وحينما تكون الد.ول على خطوط النـ.ـار أو على تمـ.ـاس مع أعـ.ـدائها، حيث تتلاشى الفواصل بين الاخـ.ـتراق الثقافي واختـ.ـراق الحدود.

وهكذا نجد أنه على قدر ما كانت تتصف به الدول الإسـ.ـلامية عموما من رحابة وسمعة طيبة في الحوار المعرفي والإنتاج العلمي؛ نرى تلك الحسـ.ـاسية الشـ.ـديدة أمام بعض المؤلفات الجديدة والأفكار المختلفة.

ومن الغريب حقا أن الأندلس -على ما اشتهرت به من تميز أدبي ومعرفي- كانت من المراكز شـ.ـديدة التـ.ـوتر والحسـ.ـاسية تجاه بعض هذه الأفكار، بل إن الموقف الديني من بعض الكتب (فقها وتصوفا وفلسفة) لم يكن ينفصل -أحيانا كثيرة- عن التوظيف السـ.ـياسي.

لكن المؤرخين المسلمين حاولوا -أثناء رصـ.ـدهم لتلك الظـ.ـاهرة- الإشارة إلى سياق تاريخي لها لم تخلُ فيه الأمم السابقة من تلك الوقائع؛ ففي أيام الإغريق مثلا كانت الكتب تُحـ.ـرق بإشراف كبار الفلاسفة، فالمؤرخ ابن أبي أصَيْبعة (ت 668هـ/1269م) –

في ‘عيون الأنباء‘- يذكر أن “أفلاطون (ت 347ق.م) أحـ.ـرق الكتب التي ألفها [الفيلسوف] ثاسلس (= طاليس الملطي ت نحو 546ق.م) وأصحابه، ومن انتحل رأيا واحدا من [القائلين بـ]ـالتجربة والقياس، وترك الكتب القديمة التي فيها الرأيان جميعا”، لأنه كان يقول بـ”الرأيين جمعيا” وعدم صحة الأخذ بالقياس وحده أو التجربة بمفردها.

ونجد عند ابن أبي أصيبعة أيضا أن جالينوس (ت 210م) كان معـ.ـارضا لرأي فلاسفة الأطباء -وقد كان الطبّ عندئذ جزءا من الفلسفة- الذين يقولون إنه “لا صناعة غير صناعة الحِيَل وهي صناعة الطب الصحيحة”، فكان ينتقد كتبهم المؤلفة في مذهبهم هذا حتى إنه “أحـ.ـرق ما وجد منها وأبطل هذه الصناعة الحيلية”.

ولكن يظل من المشاهد العجيبة -التي انطوت عليها تلك الظاهرة- مشهد قيام بعض العلماء والمفكرين المسلمين طوعا بحـ.ـرق كتبهم أو إهلاكها بأي طريقة كانت (تحـ.ـريقا أو تغريقا أو تمزيقا)!! ومكمن العجب هنا هو أن يقوم الكاتب بإتلاف

ما سطّرته يداه من معارف طوال أزمان وبجهد ومعـ.ـاناة، ربما للحسـ.ـاسية المفـ.ـرطة من عدم تقدير المجتمع، أو لتحوّل في مناهج الفكر وطُرُق الوصول إلى المعرفة أو حفظها بأمانة، أو مخـ.ـافة إثارة شبـ.ـهات قد لا يتفهمها القارئ العادي!!

وعلى أي حال؛ فقد ظلت تلك العتمات -التي نقف في هذا المقال على أبرز وقائعها ودوافعها- مسحةَ ظُـ.ـلمةٍ ضئيلةً ومعزولة، لم تؤثر على طـ.ـاقة النور التي بثّتها الحضارة الإسـ.ـلامية في أرجائها وفي أنحاء العالم، ناشرةً عبرها تراثها العلمي والثقافي والفني

وميراث الأمم السابقة عليها بعد أن رعته ونقّحته شرحته وكمّلته، وظلت الثمارُ المعرفية لذلك كله تغذّي العقل الإنساني -وخاصة الغربي منه- إلى اللحظة الراهنة.

تأصيل وتعليل
إن أول ما يُمكن أن يجلب الانتباه بشأن ظاهرة حـ.ـرق الكتب والمكتبات هو أنها تعدّ -منذ القدم وحتى الآن- أحد أساليب القمع والسيطرة التي تستخدمها السلطة السيـ.ـاسية المسـ.ـتبدة ضد خصومها ومعارضيها؛ فالحـ.ـكومات المسـ.ـتبدة لا تحبّ العلوم ولا استنارة الناس بالمعارف، فلذا تخشاها وتعمل جاهدة على حجب الأفكار، بالقدر الذي يعمل به المصلحون على إنتاجها ونشرها!

ومن أقدم النصوص التي تؤسس لموقف السلطة المستبدة المناهض -أحيانا كثيرة- للعلوم والمعارف؛ ما جاء في وثيقة ‘عهد أَرْدَشِيرْ‘ المنسوب إلى مؤسس الدولة الساسانية الفارسية أَرْدَشِيرْ بن بابَك (ت 242م)؛ إذْ “نصح” من يأتون بعده من الملوك

بألا يبالوا بتخريب عقول شعوبهم حتى يضمنوا بقاء مُلكهم! وفي ذلك يقول: “وقد كان مَنْ قبلنا مِن الملوك يحتالون لعقول مَنْ يَحْذرون (= معارضيهم) بتخريبها! فإنّ العاقلَ لا تنفعه جودةُ نحيزتِه (= طبعه) إذا صُيّر عقله خرابا مواتاً”!!

ويجلّي العلامة عبد الرحمن الكواكبيّ (ت 1320هـ/1902م) ذلك المعنى -في كتابه ‘طبائع الاستبداد‘- بقوله: “فكما أنه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم

كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعيةُ بالعلم؛ [فـ]ـلا يخفى على المستبد -مهما كان غبيا- أنْ لا استعبادَ ولا اعتسافَ إلا ما دامت الرعية حمقاءَ تَخبط في ظلامةِ جهلٍ وتِيهِ عَمَاءٍ”.

وعندما تُقدم الحكومةُ على إحراق كتب أحد العلماء، كلها أو بعضها، فقها أو تصوفا أو فلسفة؛ فإنها تردّ ذلك غالبا إلى ما تزعمه من رعاية للمصلحة العامة وما يخدم الناس

على صعيد “جبهة الوعي” و”الأمن الفكري” المؤمِّن لبقاء العروش، وهو في حقيقته قد لا يعدو اعتراضا على موضوعات أو منهجيات كتب معينة ربما تتباين مع الدعاية الرسمية للبلاط.

ومن أقدم ما جاءنا من نماذج إقدام السلطة السياسية على إحراق كتب المخالفين لرؤيتها الدينية والحضارية في الحقب السابقة على الإسلام؛ ما ذكره المؤرخ الطبيب ابن أبي أصَيْبعة (ت 668هـ/1269م) -في ‘عيون الأنباء

من أن “الإسكندر (المقدوني ت 323ق.م) لما تملّك مملكة دارا واحتوى على فارس أحرق كتب دين المجوسية، وعمد إلى كتب النجوم والطبّ والفلسفة فنقلها إلى اللسان اليوناني، وأنفذها إلى بلاده وأحرق أصولها”.

أما أقدم ما سجله التاريخ الإسلامي من حرق السلطات للكتب اعتراضا على مضمونها المخالف لدعايتها الرسمية؛ فهو صنيع سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ/719م) -عندما كان وليا للعهد- بكتاب في السيرة النبوية ألّفه -بتكليف منه

قاضي المدينة النبوية أَبَانُ بن عثمان بن عفان (ت نحو 105هـ/724م)، لكن سليمان لم يعجبه ما ورد في الكتاب من ذكر لمناقب قبائل الأنصار “فأمر بذلك الكتاب فحُرق”؛ وفقا للمؤرخ النسابة الزبير بن بكار (ت 256هـ/870م) في كتابه ‘الأخبار الموفقيات‘.

وقد لاقى صنيع سليمان هذا إعجابا من والده الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م) الذي أثنى على قراره بحرق الكتاب، وبرّر ذلك بأنه يخدم مصلحة رعاياهم من أهل الشام

فقال: وما حاجتك أن تَقدم [إلى الشام] بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تعرِّف أهلَ الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها” من فضائل الأنصار!!

والسياق السياسي لتلك المخاوف يتمثل في كون ثورة أهل المدينة على الأمويين في وقعة الحرة سنة 63هـ/م كانت حينها لا تزال طرية في أذهان الناس

وكان أهل الشام هم رأس حربة الأمويين في سحق الثوار الذين كانوا في معظمهم من الأنصار؛ فكيف يقدم إليهم كتاب يروي فضائلهم وهم كانوا بالأمس القريب هدفا للدعاية الرسمية المشيطنة لهم؟
ذرائع منوعة
وكثيرا ما تذرعت السلطة في كبتها للآراء بكون صاحبها مبتدعاً أو زنديقاً ملحداً، ونحو ذلك من الدعاوى التي ترمي بها إلى تسويغ فعلتها في أعين النخبة والرأي العام المسلم.وهو ما نجد أيضا أصل توظيفه رسميا عند الملك الفارسي أردشير

إذْ يقول: “وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوكِ فيسمونهم المبتدِعين، فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويُريح الملوكَ منهم، ولا ينبغي للمَلك أن يعترف للعُبّاد والنُّسّاك والمتبتلّين بأن يكونوا أوْلى بالدين ولا أحدب عليه ولا أغضب له منه”!!

والظاهر أن المهدي العباسي (ت 169هـ/787م) كان أول من حاول تأسيس شرعيته في الحكم على قضية التصدي لما كان يسمى “الزنادقة”، حتى إن الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) يقول عنه -في ‘تاريخ الإسلام‘- إنه “بالغ في إتلاف الزنادقة وأحرق كتبهم لمّا أظهروا المعتقدات الفاسدة”.

ومن هذا النوع أيضا ما حكاه المؤرخون عن مصير جزء كبير من المكتبة الضخمة التي كانت في أيام الخليفة الأموي بالأندلس الحكم المستنصر (ت 366هـ/977م)، وكانت تُدعى “خزانة العلوم والكتب”؛ وفقا للمقّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) في ‘نفح الطِّيب‘.

فقد ذكر المقّري أن المستنصر هذا “كان محبًّا للعلوم مكرِما لأهلها، جمّاعا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله”!! ثم أضاف أن “عدد [سجلات] الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشرون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين (= المصنَّفات) لا غير”!!

وعن مصير القسم الفلسفي من ذخائر هذه المكتبة العظيمة؛ يحدثنا الذهبي -في ‘سير أعلامِ النبلاء‘- أنه بعد وفاة الحَكَم تولى الوزارة المنصور ابن أبي عامر (ت 393هـ/1004م)، الذي صار “حاجب الممالك الأندلسية” وسيد القصر الأموي بقرطبة؛

“فعمد -أولَ تغلُّبه- إلى خزائن كتب الحَكَم، فأبرز ما فيها -بمحضر من العلماء- وأمر بإفراز ما فيها من «تصانيف الأوائل» والفلاسفة حاشا كتب الطب والحساب (= الهندسة)، وأمر بإحراقها فأحرِقت وطُمِر (= دُفِن) بعضُها؛ ففعل ذلك تَحَبُّباً إلى العوام، وتقبيحاً لمذهب الحكم” في اقتناء أمثال هذه الكتب الفلسفية التي وصفها الذهبي بأنها “كانت كثيرة إلى الغاية”!!

وعبارة “أولَ تغلُّبه” -الواردة في النص أعلاه- تلقي لنا ضوءا مهمّا على الهدف السياسي الذي كان في ذهن هذا الوزير الداهية؛ فقد كان حينها لا يزال في صراع مع منافسيه

من رجال الدولة الأقوياء على الإمساك بزمام الأمور في البلاد إثر وفاة الخليفة المستنصر، من أمثال الوزير الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي (ت 372هـ/983م) وقائد الجيش غالب بن عبد الرحمن الأموي (ت 371هـ/982م).

وقد استعان المنصور لتحقيق هدفه السياسي بجماعة الفقهاء النافذين أيامها، وبتحالفه مع زوجة الخليفة الراحل واسمها صُبْح البَشْكُنْشية (ت نحو 390هـ/1000م وتنسب إلى بلاد البَشْكُنْش/البَشْكُنْس

اليوم إقليم الباسك الإسباني)، التي اعتلى ابنها الصبي الأمير هشام بن الحَكم (ت 403هـ/1013م) العرش، لكنه ظل تحت وصاية الوزير القوي المنصور العامري.

ومما يؤكد ما ذكره الذهبي من حضور للانتهازية السياسية وراء فعلة الحاجب المنصور هو كونه شخصيا محبًّا للفلسفة؛ طبقا لما يفيدنا به المقّري -في ‘نفح الطِّيب‘- الذي يقول إن أهل الأندلس “كلُّ العلوم لها عندهم حظٌّ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم

فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم ولا يُتظاهَر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم ‘زنديق‘ وقيدت عليه أنفاسَه..، وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وُجدت،

وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أولَ نهوضه [بالإمارة]، وإن كان [هو] غير خالٍ من الاشتغال بذلك (= علوم الفلسفة) في الباطن”!!

وقوله “فلم يميّزها من «كُتُب الأوائل»” إشارة منه إلى سبب الحرق الحقيقي، فابن عباد إنما أراد حرق كتب الفلسفة تحديدا! ويؤكد ذلك ما جاء في وصفه عند أبي حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) الذي يقول عنه في ‘الإمتاع والمؤانسة‘: “والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجّنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكُتّاب، وهو شديد التعصّب (= التحامل) على أهل الحكمة (= الفلسفة) والناظرين في أجزائها، كالهندسة والطبّ والتنجم والموسيقى والمنطق والعدد”.

وغير بعيد من عصر ابن أبي عامر وابن عبّاد اللذين كانا من فئة الأمراء العلماء؛ نجد المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) يذكر -في كتابه ‘الكامل‘

أن مؤسس الدولة الغزنوية محمود بن سُبُكْتِكِيْن الغزنوي (ت 421هـ/1031م) أطاح سنة 420هـ/1030م بالدولة البويهية في خراسان، ثم “أحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال والنجوم” التي كانت كثيرة في مكتبات ملوكها!

والسياق السياسي لهذه المحرقة يحيل إلى الصراع الفكري المستقوي دائما بوسائل السلطة القائمة، والمتواصل منذ أيام الخليفة المأمون العباسي (ت 218هـ/833م)


بين “أهل الحديث” الذين كان محمود الغزنوي يتقرب إليهم بالنصرة والتأييد، وتيار المعتزلة الذي يتبنى خصوم الغزنوي البويهيون آراءه باعتباره امتدادا عقديا لمذهبهم الشيعي الزيدي.

منعطف تاريخي
ثم اشتدت النزعة المستهجنة للفلسفة وخاصة في نهاية القرن الخامس الهجري/الـ11 الميلادي، ولعل مما ساهم في ترسيخ ذلك الاستهجان الهجومَ الذي شنه أيامها الإمام الغزالي (ت 505هـ/1111م) على الفلاسفة في كتابه ‘تهافت الفلاسفة‘

ولم ينفع في تخفيف آثاره ما قدمه لاحقا الإمام أبو الوليد ابن رشد الحفيد (ت 595هـ/1199م) للفلسفة من دفاع وإسناد في كتابيْه: ‘تهافت التهافت‘ و‘فصل المقال‘.

بل إن ابن رشد نفسه نالته محنة عظيمة -أواخر القرن التالي- أيام سلطان الدولة الموحدية المنصور أبي يوسف يعقوب بن يوسف (ت 595هـ/1199م)، رغم أنه كان طبيبه الخاص وبالتالي من أقرب الناس إليه؛ إذ يخبرنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأنه “سعى فيه من يناوئه

عند يعقوب، فأَرَوْه [كلاما] بخطه حاكيا عن الفلاسفة أن [كوكب] الزهرة أحد الآلهة، فطلبه، فقال: أهذا خطك؟ فأنكر، فقال: لعن الله مَنْ كتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أقامه مُهاناً، وأحرق كتب الفلسفة سوى الطب والهندسة”!!

ويصرّح ابن أبي أصيبعة بأن سبب محنة ابن رشد يعود إلى انشغاله بعلوم الفلسفة؛ فقال إن المنصور “نَقِمَ على أبي الوليد بن رشد.. ونقم أيضا على جماعة أُخَر من الفضلاء الأعيان.. وأظهر أنه فعل بهم ذلك بسبب ما يُدَّعَى فيهم [من] أنهم مشتغلون بالحكمة

(= الفلسفة) و«علوم الأوائل»”! ومما ينصر ذلك التعليلَ ما نقله أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ/1344م) -في ‘البحر المحيط في التفسير‘- من قول أحد الشعراء “يُغْري منصورَ الموحدين بأهل الفلسفة من قصيدة:
وحرِّقْ كُتْبَهم شرقا وغربا ** ففيها كامِــنٌ شَرُّ العلومِ
يدبّ إلى العقائد من أذاها ** سمومٌ والعقائدُ كالجسومِ”!

وقريبا من زمان تلك الحادثة؛ نلاقي في ترجمة الإمام الآمدي (ت 631هـ/1234م) أنه كان يدرّس الفلسفة والمنطق في الجامع الظافري بالقاهرة ثم إنه رُمي بالانحلال العقدي

حتى إن قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) يقول -في ‘وفيات الأعيان‘- إن الفقهاء “وضعوا خطوطهم بما يستباح به الدم [منه]، فخرج [من مصر] مستخفياً ونزل حماة” في الشام.

وربما ذهبت الكتب العلمية ضحية لتصفية السلطة حساباتها مع من لا ترضى عن سلوكهم من كبار الموظفين، أو العلماء المنتقدين لها؛ ومن نماذج ذلك ما وقع ببغداد لقاضي القضاة يحيى بن سعيد ابن المرخّم (ت 555هـ/1164م) الذي كان متهما بالفساد وبأنه “آخذ الرشى”؛ طبقا لابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في ‘المنتظم‘.

ولذلك فإنه صدر قرر باعتقال القاضي ابن المرخّم هذا “واستُصفيت (= صودرت) أموالُه..، وأحرِقت كتبه في الرحبة (= ميدان عام ببغداد) وكان منها كتاب ‘الشفاء‘ [لابن سينا (ت 428هـ/1038م)] و‘إخوان الصفاء‘، وحُبس فمات في الحبس”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى